أكاديمية القاسمي

 

مركز الإفتاء

مركز الإفتاء - باقة الغربية - ص.ب 124 - هاتف 6286600-04 فرعي: 631 - فاكس: 6280266-04

 

 

الرئيسية >> أرشيف الفتاوى >> الحديث الشريف - أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي

خطبة الجمعة 13/08/1426 هـ الموافق 16/09/2005م

 حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان (الاستماع إلى الخطبة  )

الحديث الشريف

أ.د. محمد سعيد رمضان البوطي

الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعد، فيا عباد الله:

أرأيتم إلى إنسان أصيب بمرضٍ عضال شديد أقامه من الألم والضجر بين الموت والحياة، إنه يبحث عن أي احتمال ولو ضعف ينجيه من هذا العذاب الذي يعاني منه. ما يسمع عن طبيب أياً كان شأنه إلا ويقرع بابه ويبحث عنده عن سبيل لشفائه، وما يحدثه زيد من الناس عن دواء يعرفه أياً كان لمثل هذا المرض أو يغدو يبحث عنه في كل مكان ليعثر عليه ويستعمله؛ لعله يجد عنده الشفاء من ألمه. كذلكم الإنسان الذي نظر إلى نفسه فوجدها مثقلة بالأوزار، تأمل في حاله فوجده مقصراً في أداء حقوق الله سبحانه وتعالى، وكان قلبه يغيض بالمهابة لله سبحانه وتعالى والخوف منه والحب له، شأنه كشأن هذا المريض يبحث عن الفرص السانحة أياً كانت لينتهزها؛ لعلها تفتح باباً من التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ما يكاد يسمع عن ذكر وارد عن المصطفى صلى الله عيه وسلم إلا ويلتجئ إليه؛ ويردده في البكور والآصال؛ لعله سيكون السبيل إلى مغفرة الله سبحانه وتعالى له، وما يكاد يسمع عن وقت ورد أن الإقبال على الله عز وجل فيه يجعل العبد مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى، ويجعله من المغفور لهم؛ فينتهز فرصة هذا الوقت، يتداركه ويطرق في ذلك الوقت باب الله عز وجل، لعل الله يتوب عليه، لعل الله يغفر ذنبه.

هذا هو شأن الذي يحتاط لنفسه، شأن العبد الذي يرى نفسه مثقلاً بالأوزار، بل حتى ولو لم يكن في نفسه مثقلاً بالأوزار، ولكنه عندما يقف على مثل قول الله سبحانه وتعالى في حق الصالحين من عباده: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: 23/60] الشأن في هذا الإنسان أن ينتهز الفرص السانحة مهما كانت دلائلها ضعيفة الشأن فيه، أن ينتهز الأذكار الواردة التي تعد علاجاً لحال التائهين ولحال العاصين والمنحرفين مهما كانت مستنداتها واهية، ذلك هو شأن الإنسان الخائف من ربه، الشاعر الأوزار المثقلة التي أثقل بها ظهره، ولاشك أن هذا الشأن مظهر من مظاهر عبودية الإنسان لله سبحانه وتعالى، فبمقدار ما يفيض قلبه شعوراً بعبوديته لله عز وجل يشعر بتقصيره في جنب الله، ويشعر بعجزه الكل عن أداء حقوق الله سبحانه وتعالى، ومن ثم يبحث عن السبل أياً كانت ما لم تكن مخالفةً لحكم من أحكام الله سبحانه وتعالى الثابتة في محكم تبيانه، أو الأحكام الثابتة في هدي رسول الله صلى الله عيه وسلم والصحيح من سنته.

أقول هذا - أيها الإخوة - بين يدي فرصة من هذه الفرص التي ينتهزها المحتاطون لأنفسهم، ويتيه عنها الناس المشغولون عن عبوديتهم لله سبحانه وتعالى بالقال والقيل، نحن اليوم في شهر شعبان، ولقد وردت أحاديث كثيرة في فضل هذا الشهر عموماً، من هذه الأحاديث:

ما روي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم من أنه سئل عن السبب في إكثاره من الصوم في هذا الشهر فقال: ((ذلك شهر ترتفع فيه الأعمال إلى الله، فأحب أن يرتفع عملي إلى الله عز وجل وأنا صائم)) رواه النسائي في سننه.

أنا لا أبحث عن مدى قوة هذا الحديث، فأنا إنسان أحتاط لنفسي، وأنا إنسان أتمسك بالاحتمال الذي يسعفني كشأن الفريق الذي يتعلق بأدهى الحبال، أجلّ.

أما ليلة النصف من شعبان التي أنتم على موعد معها لقد ورد أيضاً فيها أحاديث منها ما رواه البهقي مرسلاً من حديث العلاء بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عيه وسلم ليلة فصلى فسجد فأطال السجود؛ حتى ظننت أنه قد قبض، فقمت وحركت إصبعه - أي إصبع قدمه - فتحرك، فرجعت، فسمعته يقول في سجوده: ((اللهم إني أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) فيما قام من سجوده وفرغ من صلاته، قال لي: ((يا عائشة! أظننت أ، النبي قد خاس بكِ)). قالت: لا يا رسول الله، ولكنني ظننت أنك قد قُبضت من طول سجودك، فقال: ((أتعلمين أي ليلة هذه؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((إنها ليلة النصف من شعبان، يطلَّلع الله فيها على عباده، فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مسترحم فأرحمه؟ ويَدعُ أهل الحقد كما هم)). يقول البيهقي هذا مرسلٌ جيد، من مراسل العلاء بن الحارث عن عائشة رضي الله عنها.

أنا لا أقف عند قوة هذا الحديث وضعفه، المهم أنه حديث واحتمال صحته قائم.

ومثل ذلك الحديث الآخر الذي يرويه ابن ماجه، من حديث علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: ((إذا كانت ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارها))، لعله حديثٌ ضعيف، ولكني أنطلق من التمهيد الذي ذكرته لكم. أنا الآن مريض أعاني من مرضٍ عضال، ما الشأن الذي يدفعني إليه المنطق والعقل؟ أن أبحث عن الاحتمالات كلها، وأستقرأ هذه الاحتمالات لعل فيها ما ينجدني ويخلصني من هذا المرض. أقرع باب الطبيب الأول فالثاني فالثالث فالرابع فالخامس وإن كان احتمالات العجز عند هؤلاء الأطباء وارد. توصف لي الأدوية المختلفة، وأنا مريض، ماذا أصنع؟ أستعمل هذا الدواء، ثم أستعمل الدواء الثاني، فالثالث، فالرابع، والمرض واحد - أيها الإخوة - المرض الجسدي شأنه كشأن المرض الروحي والديني، أنا عندما أجد نفسي مثقلاً بالأوزار عندما أجدني مقصراً في جنب الله عز وجل، وعندما يكون فؤادي في الوقت ذاته فياض بالمخافة من الله، والتعظيم لله ولحرمات الله، والمحبة لله عز وجل، ما السبيل الذي يدفعني المنطق إلى أن أسلكه؟ السبيل هو أن أعتصم بأي احتمال، ما لم يكن احتمالاً محرماً، ورد في حرمته نصٌ من كتاب الله أو حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عيه وسلم . ذكر الله، الصوم، قيام الليل: كل ذلك من العبادات المبرورة.

وعندما يقال إن هذا الحديث ضعيف ما معنى ذلك؟ أي أن احتمال صحته وارد، ولكنه احتمال ضعيف لعله يساوي ثلاثين في المئة مثلاً، هذا معنى قولنا إنه حديث ضعيف، قال إن احتمال صحته عشرة في المئة، الإنسان الوَجِل يتمسك بالعشرة من المئة. شيء آخر: أنا عندما أتمسك بهذه الاحتمالات الواهية، يرى الله سبحانه وتعالى قصدي من هذا التمسك، يعلم الله عز وجل أنني أطرق من خلال التمسك بهذه الاحتمالات باب الله سبحانه وتعالى.

عندما أحد أن هنالك من روى حديثاً عن المصطفى صلى الله عيه وسلم :أنه من صلى على رسول الله صلى الله عيه وسلم ليلة الجمعة بهذه الصيغة قائلاً: ((اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي الحبيب العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وصحبه وسلم، كنت أكده بيدي)) احتمال وارد أن يكون هذا الحديث صحيحاً بنسبة عشرة في المئة، ما الذي يمنعني من أن أنتهز فرصة هذه الرواية إذا كنت معنياً بحالي؟ إذا كنت متألماً لتقصيري؟ إذا كانت العبودية ملء كياني لله سبحانه وتعالى؟ سأنتهز هذه الفرصة ولسان حالي يقول: يا رب لقد بلغني أن رسولك صلى الله عيه وسلم قال هذا، وأنا أكرر هذه الصيغة من الدعاء على رسولك محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأسألك أن تحققه لي سواءٌ قاله روسل الله أم لم يُقله.

هذا شأن الإنسان المعنيّ بحاله، المتألم لتقصيره. أما الإنسان الذي حجب عن مشاعر عبوديته لله، الذي حجب عن مشاعر تعظيمه لله سبحانه وتعالى فالذي يشغله عن هذه الحقيقة قالٌ وقيل، ميضي ربما وقتاً طويلاً وهو يناقش ويجادل في أن هذا الحديث غير وارد وأن الحديث عن صيام النصف من شعبان باطلٌ وضعيف وواهٍ جداً، والدليل كذا، وفلان قال كذا، والآخر اعترض على الحديث بكذا، وقت طويل يزجيه في هذا القال والقيل، أليس خيراً من هذا لمن يشم رائحة تقصيره ولمن يعلم كم هو مُثقل بالأوزار ولمن يعلم أنه بحاجةٍ إلى أن يتمسك بأي احتمال ينقذه من ورطة ذنوبه، ينقذه من سوء حاله، أليس الأولى به أن يغض الطرف عن هذا الأمر وهو موقن بضعف الحديث؟ ويقول: يا رب ها أنا ذا أقبل إليك أنفد هذا الذي يلغي عن رسولك محمد صلى الله عيه وسلم وهو القائل: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرءٍ ما نوى..)) وأنت تعلم حالي، أنا أبحث عن سبيل تقبلني به إليك، تتوب به علي، تغفر لي ذنوبي.

هذا هو الشأن في المسلم الذي هيمنت مشاعر العبودية لله سبحانه وتعالى على كيانه - أيها الإخوة -.

هذا الذي أقوله لكم أنصح به نفسي، وأنصح به كل مسلم وكل مؤمن بالله سبحانه وتعالى، وكل من يشعر أنه مقصر في جنب الله، وأنه مثقل بالأوزار بحاجة إلى أن يطرق أبواب الله الكثيرة، وأن يتمسك بالاحتمالات الكثيرة، لعل احتمالاً منها أو لعلها جميعاً تنجيه من سوء حاله، وتقربه إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد قال العلماء قديماً: إن الأحاديث الضعيفة تقبل في فضائل الأعمال.

ما معنى في فضائل الأعمال؟ أي في الأمور التي وردت أدلة كثيرة على مشروعيتها، الصدق فضيلة إن وجدت حديثاً واهياً ضعيفاً يتحدث عن أهمية الصدق تمسك به، لأنه يدعوك إلى شيء ثبتت مشروعيته بأدلة لا تحصى. قيام الليل أمر مشروع ومطلوب بكلام الله سبحانه وتعالى، إن رأيت حديثاً واهياً، لا ضعيفاً، واهياً يدعوك إلى قيام الليل فانهض وتمسك بهذا الحديث لأنه صحيح وهكذا...

أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من لذة الشعور بعزة عبوديتنا لله عز وجل، ذلُّ العبودية لله هو مرقاة العز في هذه الحياة الدنيا، وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن قال الله عز وجل عنهم في محكم تبيانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا} أي من الأعمال الصالحة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: 23/60].

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم...

 

 

المصدر : http://www.bouti.com/bouti_friday_2005_09_16.htm | (الاستماع إلى الخطبة  )

 

 

 

تصميم : أ. توفيق سيدي

أكاديمية القاسمي : مركز الإفتاء Copyright 2005