من أسس الدين الورع
أ.د. محمد سعيد رمضان
البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً
يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد
كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك
اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على
نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده
ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله،
أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً،
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى
آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين
متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها
المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من الدعائم الأساسية المتفق عليها في
ديننا الحنيف الأخذَ بكل شيءٍ بالاحتياط،
والتعاملَ مع كل أمر من الأمور على أساس من
الورع. هذا أساس متفقٌ عليه من الأسس الذي
ينبغي أن يتعامل كل منا مع الإسلام على
أساسها.
وما هو معنى الاحتياط في دين الله عز وجل؟
معناه بكلمة موجزة: أنك إذا رأيت نفسك في
أمر من الأمور أمام دليلين محتَمِلين أحدهما
دليل التحريم والآخر دليل الإباحة؛ فالحيطة
في هذه الحال أن تجنح إلى دليل التحريم، وأن
تبتعد عن هذا الأمر الذي وقع فيه الاحتمال.
وأما إن رأيت نفسك في أمر آخر من الأمور
أمام دليلي الإباحة والندب أو الإباحة
والوجوب؛ فإن الحيطة هي أن تأخذ بدليل الندب
وتترك الإباحة، أو أن تجنح إلى دليل الوجوب
وتترك دليل الإباحة.
هذا هو باختصار ميزان الأخذ بالحيطة في دين
الله سبحانه وتعالى، والإنسان الذي فاض قلبه
مشاعر من تقوى الله سبحانه وتعالى لا بدَّ
أن يأخذ نفسه بهذا المنهج؛ سواءٌ ذكِّر به
أم لم يُذكَّر به. فأنت كنت تشعر بمخافتك من
الله وبرغبتك الصادقة في تَلَمُّس ما يرضي
الله عز وجل وفي الابتعاد عما ينهى الله عز
وجل عنه لا بدَّ أن تسلك هذا المسلك بدافع
من شعورك هذا. إن رأيت نفسك في مسألة من
المسائل أمام دليل يوحي إليك بأن هذا الأمر
مباح، ولكن إلى جانبه دليل آخر يحتمل إلا
أنه يوحي إليك بأن هذا الأمر مباح، ولكن إلى
جانبه دليل آخر يحتمل إلا أنه يوحي بأن هذا
الأمر محرَّم، فإن مشاعر التقوى لديك تجعلك
تجنح إلى دليل التحريم لتبتعد عنه. وإن رأيت
نفسك في مسألة أخرى أمام دليلين محتملين؛
أحدهما يدل على الإجابة، والآخر يدل على
الوجوب أم على الندب؛ فإن حوافز التقوى لديك
تجعلك تتجه إلى دليل الندب لتتمسك بهذا
المباح أو إلى دليل الوجوب لتُلْزِم نفسك
به.
وأنا أضرب لكم بعض الأمثلة؛ لعلك تجد حديثاً
يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي
يرويه الدارِميُّ في مسنده: أنَّ من قرأ
ليلة الجمعة سورة الدخان بات مغفوراً له.
وتتأمل في درجة هذا الحديث فتجد أن هنالك من
ضَعَّفه فلم يأخذ به، وتجد أن هنالك من
اعتبره قوياً وأخذ به. ما هي الحيطة في هذه
الحال؟ وما الذي يدعوك إليه شعورك بتقوى
الله عز وجل؟ تقول: لعل هذا الحديث قوي،
وعلى كلٍّ فقراءة سورة الدخان تلاوةٌ لكتاب
الله سبحانه وتعالى فلأَحْطَطْ لنفسي
ولأُلْزِمْ نفسي بقراءة هذا السورة مساء كل
ليلة جمعة. وإن رأيت نفسك أمام حديث يُروى
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق
بمعاملة مالية؛ ببيع من البيوع فرأيت أن
هنالك من ضَعَّف هذا الحديث الذي يدل على
إباحة هذا البيع والترخيص فيه، ورأيت من
يقول بأن هذا الحديث باطل لا أصل له ومن
ثُمَّ فإن هذا البيع محرَّم؛ لا شك أن مشاعر
التقوى تدعوك إلى أن تبتعد عن هذه المعاملة
احتياطاً. والأمثلة على هذا كثيرة أيها
الإخوة.
وأنا أريد أن أجعل من تذكيركم بهذا المبدأ
الذي لا خلاف فيه؛ مبدأ الحيطة في التمسك
بدين الله عز وجل، أريد أن أجعل من ذلك
مدخلاً لما أنا بصدده بل لما نحن جميعاً
بصدده الآن.. نحن نمر الآن بشهر من الأشهر
التي ثبتت حرمتها ومكانتها عند الله سبحانه
وتعالى؛ ألا وهو شهر شعبان.
ولقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيما روته عائشة عنه أنها قالت: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا
يفطر، وكان يفطر حتى نقول لا يصوم. وما
رأيته استكمل صيام شهر إلا شهر رمضان. وما
رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شهر شعبان.
وكان يقول: ((ذلك شهر ترتفع فيه الأعمال إلى
الله، وأحب أن يرتفع عملي إلى الله وأنا
صائم)). ولقد وردت أحاديث أخرى في فضيلة
ليلة النصف من شهر شعبان. لعل فيها أحاديث
ضعيفة، وفيها أحاديث قوية.
ومن أقوى هذه الأحاديث التي وردت في فضيلة
ليلة النصف من شعبان ذاك الذي يرويه البيهقي
في سننه مرسلاً ويقول: هذا مرسل جيد، يرويه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليلة فصلى فأطال السجود
حتى ظننت أنه قد قُبض، فقمتُ وحركتُ إبهامه
فتحرك، فرجعت، فسمعته يقول في سجوده:
((اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ
برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء
عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) فلما انتهى
من صلاته قال لي: ((أظننتِ أن النبي صلى
الله عليه وسلم قد خاس بك؟)) قلتُ: لا والله
يا رسول الله، ولكنني ظننت أنك قد قُبِضْت
من طول سجودك. قال: ((أتدرين أيُّ ليلة
هذه؟)) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((هي
ليلة النصف من شعبان: يغفر الله فيها
للمستغفرين، ويرحم الله للمسترحمين، ويؤخر
أهل الحقد كما هم)). هذا حديث ربما ضعّفه
بعض الناس، وها هو ذا البيهقي يقويه.
وهنالك أحاديث كثيرة أخرى؛ كالذي يرويه ابن
ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ((إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا
ليلها وصوموا نهارها))، ولعله حديث ضعيف.
لكن أعود فأذكِّركم بالمبدأ المتَّفق عليه
في ديننا الحنيف والذي يشكل دِعامة من
دِعامة التمسك بدين الله؛ ألا وهي الحيطة.
هل الحيطة تقتضي أن نبتعد عن الاحتفاء بهذه
الليلة، والإقبال فيها إلى الله بالدعاء
المشروع بل المطلوب؛ أم الحيطة تقتضي أن
نبتعد عن هذا الذكر الذي يأمرنا به الله، عن
الدعاء الذي يطلبه الله عز وجل منا؟ عرفتم
القاعدة الآن. الحيطة في أمر يتجاذبه دليلا
الإباحةِ والندبِ أن نجنح إلى دليل الندب.
والحيطة في أمر يتجاذبه دليلا الإباحة
والوجوب أن نجنح إلى دليل الوجوب. إذن
فالتقوى - إن كانت هنالك تقوى بين جوانحنا -
تدعونا إلى أن نفترض أن هذه الأحاديث صحيحة،
واحتمال الصحة فيها قوي جداً، فنحتفي بهذه
الليلة كما نحتفي بشهر شعبان كله.
بل أقول لكم شيئاً آخر: أليست ليلة النصف من
شعبان ليلةً من ليالي هذا الشهر؟ أو لم يثبت
فيما اتفق عليه الشيخان أن هذا الشهر شهر
مبارك كان يحتفل به رسول الله؟ وكان يقول:
((ترتفع به الأعمال وأنا أحب أن يرتفع عملي
إلى الله وأنا صائم)). ليلةٌ النصف ليلةٌ من
ليالي هذا الشهر، حتى ولو لم نقف أمام
الأدلة الخاصة المتعلقة بهذه الليلة.
ولكني أعود فأقول لكم: الناس فريقان أيها
الإخوة: فريق وفقه الله فجعل قلبه وعاء
لمخافة الله، لتعظيم حرمات الله، لمحبة الله
عز وجل؛ ومن ثُم أفرزت هذه المشاعرُ لديه
التقوى. هذا الإنسان تقوده تقوى الله عز وجل
إلى الحيطة. إن قال له قائل: إن بيع
العِيْنة ورد دليلٌ بجوازه وورد دليل
بحرمته؛ جنح إلى دليل التحريم. وإن وجد نفسه
أمام مسألة أخرى يقول العلماء فيها: إن ليلة
النصف من شعبان وردت فيها أدلة تقتضي قيامها
وتقتضي صيام يومها لكنها أحاديث ضعيفة؛ جنح
إلى اعتبار أنها ربما تكون صحيحة. الإنسان
الذي فاض قلبه بمشاعر التقوى هكذا يسير،
يحتاط دائماً. يتأمل أماكن تجليات الله
ورحمته، يقف فيها. يبحث عن الساعات التي
يتوقع أن يكرمه الله عز وجل فيها برحمة،
يتعرض لهذه النفحات ولرحمة الله عز وجل حتى
وإن وجد الدليل على ذلك لا يرقى إلى أكثر من
عشرين في المئة.
أما الذين فَرَغَت قلوبهم من مشاعر تقوى
الله، وفَرَغت أفئدتهم من مشاعر المخافة من
الله والتعظيم لحرمات الله ومحبة الله عز
وجل، فهؤلاء من شأنهم أن ينتهزوا فُرَص طرح
مثل هذه المسائلِ ليرُوا الناس قُدراتهم
العلمية، وليُبْرِزوا للناس تحقيقاتهم
الفكرية. ونحن لسنا من هؤلاء أيها الإخوة.
نحن نتجلبب بجلباب العبودية لله، ونحن
نتعامل مع الله على الأساس التالي؛ نبوء -
كما عَلَّمَنا رسول الله بسيد الاستغفار -
بإثمنا، نعترف بعظيم جرمنا وبمعاصينا التي
أثقلت كواهلنا. ونبحث عن أي وسيلة عن أي
فرصة تخفف هذه الأوزار عنا، وتطهرنا من هذه
الآثام التي أثقلتنا. هذا هو مبدؤنا، وهذا
هو منهجنا.نعم.
ولذلك فالشأن في الإنسان الذي أكرمه الله عز
وجل بهذا الشعور أن يتيمم الأماكن والأزمنة
التي يُقال: إن لله عز وجل تجليات فيها. ما
ضَرَّك أن تقف في هذه الأماكن أو أن تبحث عن
هذه الأزمنة فتتجه إلى الله بالعبادة؛
والعبادة مشروعة في كل الأحوال، مطلوبة في
كل الأحوال. قال لي قائل: هل يرتفع ثواب
قراءة القرآن إلى الميت إن توجه الإنسان
بقراءته لأن يكون ثوابها لميْت؟ قلت له: ورد
في ذلك خلاف. ولكن ما الحيطة في هذا الأمر؟
إذا كان لي حبيب قضى نَحْبَه وأردتُ أن أرسل
إليه هدية إلى عَالَمِه الذي هو فيه في
البرزخ. قال لي قائل: إن هديتك ستصل. وقال
لي آخر: إن هديتك لن تصل - وأنا أحبه - ماذا
أصنع أيها الإخوة؟ أحتاط، أقول: فَلأُرسل
إليه هديتي هذه، إن وصلت إليه فذاك، وإن لم
تصل إليه فإنني لم أُحرم من ثواب قراءتي قط.
أليس العاقل يتصرف على هذا الأساس أيها
الإخوة؟ هذا هو منهجنا الذي نسير عليه، وهذا
هو طريقنا الذي نرجو أن نصل في نهايته إلى
مرضاة الله سبحانه وتعالى.
بقي أن أقول لكم شيئاً: إنه لا يجوز
بالاتفاق أن يبدأ الإنسان صياماً بعد دخول
النصف الثاني من هذا الشهر المبارك. أما
الاستمرار فذلك شيء آخر. وصيام يوم النصف من
شعبان - وإن ثبت بحديث ضعيف - فإنه على كلٍ
صومٌ مبرور.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن
استجابوا لقول الله سبحانه وتعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ}
[التغابن: 64/16].
اللهم وفقنا لأن نستجيب لأمرك هذا فاستغفروه
يغفر لكم.
المصدر :
http://www.bouti.com/bouti_friday_2002_10_18.htm
|
استمع للخطبة
|