قال الإمام شهاب الدين
القرافي رحمه الله تعالى:
الفرق
الثامن والسبعون : الفرق بين قاعدة من يجوز
له أن يفتي، وبين قاعدة
من لا يجوز له أن يفتي
اعلم أن طالب العلم له أحوال:
الحالة
الأولى: أن يشتغل بمختصر من
مختصرات مذهبه فيه مطلقاتٌ مقيَّدةٌ في
غيره، وعموماتٌ
مخصوصةٌ في غيره.
ومتى كان الكتاب المعيَّن
حفظُه وفهمُه كذلك أو جوِّزَ
عليه أن يكون كذلك حرم عليه
أن يفتي بما فيه ، وإن أجاده حفظاً وفهماً،
إلا في
مسألةٍ يقطَعُ فيها أنها
مستوعبة التقييد، وأنها لا تحتاج إلى معنى
آخر من كتاب
آخر، فيجوز له أن ينقلها لمن
يحتاجها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان،
وتكون هي
عين الواقعة المسئول عنها لا
أنها تشبهها ولا تخرَّج عليها، بل هي هي
حرفاً بحرف،
لأنه قد يكون هنالك فروق
تمنع من الإلحاق أو تخصيص أو تقييد يمنع من
الفتيا
بالمحفوظ فيجب الوقف.
الحالة الثانية: أن يتسع
تحصيله في المذهب بحيث
يطَّلع من تفاصيل الشروحات
والمطولات على تقييد المطلقات وتخصيص
العمومات.
ولكنه مع ذلك لم يضبط مدارك
إمامه ومسنداته في فروعه ضبطاً متقناً، بل
سمعها من حيث الجملة من
أفواه الطلبة والمشايخ، فهذا يجوز له أن
يفتي بجميع ما
ينقله ويحفظه في مذهبه
اتباعاً لمشهور ذلك المذهب بشروط الفتيا،
ولكنه إذا وقعت له
واقعة ليست في حفظه لا
يخرجها على محفوظاته، ولا يقول هذه تشبه
المسألة الفلانية؛
لأن ذلك إنما يصح ممن:
1-
أحاط بمدارك إمامه وأدلته
وأقيسته وعلله التي
اعتمد عليها مفصلَّة.
2-
ومعرفة رتب تلك العلل
ونسبتها إلى المصالح
الشرعية، وهل هي من باب
المصالح الضرورية أو الحاجية أو التتميمية ؟
3-
وهل
هي من باب المناسب الذي
اعتبر نوعه في نوع الحكم أو جنسه في جنس
الحكم ؟
4-
وهل هي من باب المصلحة
المرسلة التي هي أدنى رتب المصالح أو من
قبيل ما شهدت لها
أصول الشرع بالاعتبار ؟
5-
أو هي من باب قياس الشبه أو
المناسب أو قياس
الدلالة أو قياس الإحالة أو
المناسب القريب ؟
إلى غير ذلك من تفاصيل
الأقيسة ورتب العلل في نظر
الشرع عند المجتهدين
.
وسبب ذلك أنَّ الناظرَ في
مذهبه والمخرِّج على أصول
إمامه نسبته إلى مذهبه وإمامه كنسبة إمامه
إلى صاحب الشرع
في اتباع نصوصه والتخريج على
مقاصده، فكما أنَّ إمامَه لا يجوز له أن
يقيس مع قيام
الفارق؛ لأن الفارق مبطل
للقياس، والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد
عليه -فكذلك هو
أيضاً لا يجوز له أن يخرج
على مقاصد إمامه فرعاً على فرعٍ نصَّ عليه
إمامه مع قيام
الفارق بينهما، لكن الفروق
إنما تنشأ عن رتب العلل وتفاصيل أحوال
الأقيسة، فإذا كان
إمامُه أفتى في فرعٍ بُنِي
على علَّة اعتبر فرعها في نوع الحكم لا يجوز
له هو أن
يخرِّج على أصل إمامه فرعاً
مثل ذلك الفرع، لكون علته من قبيل ما شهد
جنسه لجنس
الحكم، فإنَّ النوع على
النوع مقدَّم على الجنس في النوع ولا يلزم
من اعتبار الأقوى
اعتبار الأضعف.
وكذلك إذا كان إمامه قد
اعتبر مصلحةً سالِمةً عن المعارض
لقاعدةٍ أخرى فوقع له هو فرع
فيه عين تلك المصلحة، لكنها معارضة بقاعدة
أخرى أو
بقواعد فيحرم عليه التخريج
حينئذ؛ لقيام الفارق، أو تكون مصلحة إمامه
التي اعتمد
عليها من باب الضروريات
فيفتي هو بمثلها ولكنها من باب الحاجات أو
التتمات، وهاتان
ضعيفتان مرجوحتان بالنسبة
إلى الأولى، ولعلَّ إمامَه راعَى خصوص تلك
القوية والخصوص
فائت هنا، ومتى حَصَلَ
التردد في ذلك والشك وجب التوقف كما أنَّ
إمامه لو وجد صاحب
الشرع قد نصَّ على حكم
ومصلحة من باب الضروريات حرم عليه أن يقيس
عليه ما هو من باب
الحاجات أو التتمات لأجل
قيام الفارق.
فكذلك هذا المقلِّد له،
لأنَّ نسبتَه
إليه في التخريج كنسبة إمامه
لصاحب الشرع.
والضَّابطُ له ولإمامه في
القياس
والتخريج أنهما متى جوَّزَا
فارقاً يجوز أن يكون معتبراً حَرُمَ القياس،
ولا يجوزُ
القياس إلا بعد الفحص
المنتهي إلى غاية أنه لا فارق هناك ولا
معارض ولا مانع يمنع
من القياس.
وهذا قَدرٌ مشترك بين
المجتهدين والمقلِّدين للأئمة المجتهدين،
فمهما جوَّزَ المقلِّد في
معنى ظَفَرَ به في فحصه واجتهاده أن يكون
إمامُه قصدَه أو
يراعيه حَرُمَ عليه
التَّخريج، فلا يجوز التخريج حينئذ إلا لمن
هو عالم بتفاصيل
أحوال الأقيسة والعلل ورتب
المصالح وشروط القواعد وما يصلح أن يكون
معارضاً وما لا
يصلح، وهذا لا يعرفه إلا من
يعرف أصول الفقه معرفة حسنة ، فإذا كان
موصوفاً بهذه
الصفة وحصل له هذا المقام
تعيَّن عليه مقامٌ آخر، وهو النَّظر وبذل
الجهد في تصفح
تلك القواعد الشرعية وتلك
المصالح وأنواع الأقيسة وتفاصيلها، فإذا
بَذَلَ جهده فيما
يعرفه ووجد ما يجوز أن
يعتبره إمامه فارقاً أو مانعاً أو شرطاً،
وهو ليس في الحادثة
التي يروم تخريجها حَرُمَ
عليه التخريج، وإن لم يجد شيئاً بعد بذل
الجهد وتمام
المعرفة جاز له التخريج
حينئذ.
وكذلك القول في إمامه مع
صاحب الشرع لا بد
أن يكون إمامه موصوفاً بصفات
الاجتهاد التي بعضُها ما تقدَّم اشتراطه في
حق
المقلِّد المخرج.
ثم بعد اتصافه بصفات
الاجتهاد ينتقل إلى مقام بَذْلِ
الجهد فيما علمه من القواعد
وتفاصيل المدارك، فإذا بذل جهده ووجد حينئذ
ما يصلح أن
يكون فارقاً أو مانعاً أو
شرطاً قائماً في الفرع الذي يروم قياسه على
كلام صاحب
الشرع حرُمَ عليه القياس
ووجب التوقف، وإن غلب على ظنِّه عدم جميع
ذلك وأن الفرع
مساوٍ للصورة التي نصَّ
عليها صاحبُ الشرع وجب عليه الإلحاق حينئذ
وكذلك مقلده.
وحينئذ بهذا التقرير يتعين
على من لا يشتغل بأصول الفقه أن لا يخرج
فرعاً
أو نازلةً على أصول مذهبه
ومنقولاته -وإن كثرت منقولاته جداً-، فلا
تفيد كثرة
المنقولات مع الجهل بما
تقدم، كما أنَّ إمامَه لو كثرت محفوظاته
لنصوص الشريعة من
الكتاب والسنة وأقضية
الصحابة رضي الله عنهم ولم يكن عالماً بأصول
الفقه حرُمَ عليه
القياس والتخريج على
المنصوصات من قبل صاحب الشرع، بل حَرُم عليه
الاستنباط من نصوص
الشارع؛ لأن الاستنباط فرع
معرفة أصول الفقه.
فهذا الباب المجتهدون
والمقلدون فيه سواء في
امتناع التخريج، بل يفتي كلُّ مقلد وصل إلى
هذه الحالة التي
هي ضبط مطلقات إمامه
بالتقييد وضبط عمومات مذهبه بمنقولات مذهبه
خاصة من غير تخريج
إذا فاته شرط التخريج، كما
أنَّ إمامه لو فاته شرط أصول الفقه وحفظ
النصوص
واستوعبها يصير محدثاً
ناقلاً فقط، لا إماماً مجتهداً، كذلك هذا
المقلد.
فتأمل ذلك، فالناس مهملون له
إهمالاً شديداً، ويقتحمون على الفتيا في دين
الله تعالى والتخريج على
قواعد الأئمة من غير شروط التخريج والإحاطة
بها، فصار يفتي
من لم يحط بالتقييدات ولا
بالتخصيصات من منقولات إمامه، وذلك لعب في
دين الله تعالى
وفسوق ممَّن يتعمده، أو ما
علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى ؟!
وأنَّ من كذب على
الله تعالى أو أخبر عنه مع
[عدم] ضبط ذلك الخبر فهو عند الله تعالى
بمنـزلة الكاذب
على الله ؟! فليتق الله
تعالى امرؤ في نفسه ولا يقدم على قول أو فعل
بغير شرطه.
تنبيه: كلُّ شيءٍ أفتى فيه
المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع
أو
القواعد أو النص أو القياس
الجلي السالم عن المعارض الراجح، لا يجوز
لمقلِّدِه أن
ينقله للناس ولا يفتي به في
دين الله تعالى.
فإنَّ هذا الحكم لو حَكَمَ
به
حاكمٌ لنقضناه، وما لا نقره
شرعاً بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا
نقره شرعاً إذا
لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا
نقره شرعاً.
والفتيا بغير شرع حرامٌ،
فالفتيا
بهذا الحكم حرام، وإن كان
الإمام المجتهد غير عاص به بل مثاباً عليه؛
لأنَّه بذل
جهده على حسب ما أمر به، وقد
قال النبي عليه السلام: ((إذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله
أجر، وإن أصاب فله أجران)).
فعلى هذا يجب على أهل العصر
تفقد مذاهبهم،
فكلُّ ما وجدوه من هذا النوع
يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهبٌ من
المذاهب عنه،
لكنَّه قد يَقِلُّ وقد يكثر،
غير أنَّه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا
من عرف
القواعد والقياس الجلي والنص
الصريح وعدم المعارض لذلك، وذلك يعتمد تحصيل
أصول
الفقه والتبحر في الفقه،
فإنَّ القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه،
بل للشريعة
قواعدُ كثيرةٌ جداً عند أئمة
الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه
أصلاً،
وذلك هو الباعث لي على وضع
هذا الكتاب؛ لأضبط تلك القواعد بحسب طاقتي.
ولاعتبار هذا الشرط يحرم على
أكثر الناس الفتوى، فتأمل ذلك فهو أمرٌ
لازم،
وكذلك كان السلف رضي الله
عنهم متوقفين في الفتيا توقفاً شديداً، وقال
مالك: (لا
ينبغي للعالم أن يفتي حتى
يراه الناس أهلاً لذلك ويرى هو نفسه أهلاً
لذلك)، يريد
تثبت أهليته عند العلماء،
ويكون هو بيقين مطلعاً على ما قاله العلماء
في حقِّه من
الأهلية؛ لأنه قد يظهر من
الإنسان أمرٌ على ضدِّ ما هو عليه، فإذا كان
مُطَّلعاً
على ما وصفه به الناس حصل
اليقين في ذلك، وما أفتى مالكٌ حتى أجازه
أربعون
مُحنَّكاً؛ لأنَّ التحنك
-وهو اللثام بالعمائم تحت الحنك- شعارُ
العلماء، حتى إنَّ
مالكا سئل عن الصلاة بغير
تحنك فقال: لا بأس بذلك، وهو إشارة إلى تأكد
التحنيك.
وهذا هو شأن الفتيا في الزمن
القديم، وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج،
وسهل على الناس أمر دينهم،
فتحدثوا فيه بما يصلح وبما لا يصلح، وعسر
عليهم اعترافهم
بجهلهم وأن يقول أحدهم: لا
يدري، فلا جرم آل الحالُ للناس إلى هذه
الغاية بالاقتداء
بالجُهَّال.
الحالة الثالثة: أن يصير
طالبُ العلم إلى ما ذكرناه من الشروط،
مع الديانة الوازعة والعدالة
المتمكنة، فهذا يجوز له أن يفتي في مذهبه
نقلاً
وتخريجاً، ويعتمد على ما
يقوله في جميع ذلك.
---------------------------------------------------
*
المصدر:
كتاب
الفروق للإمام شهاب الدين
القرافي
--------------------------------------------------- |